الصراع من أجل حماية المواقع

د.عبد الرحمن السلمي

لا نبالغ إذا قلنا أن أعنف النزاعات ضراوة وأشد الصراعات فتكاً لا تدور في ميادين الحروب وعند اشتداد الخطوب ، وإنما تدور رحاها في ميادين الفكر والأدب ذلك أن الأدباء وأهل الفكر والثقافة يعملون على هندسة العالم وتشكيل فكره الأيديولوجي لنشر فلسفة محددة وتبني مواقف معينة.

وأصحاب الفكر الحداثي يستميتون في دفاعهم المحموم عن منهجهم وفكرهم من أجل حماية المواقع والمحافظة على مكاسبهم المزعومة وخوفاً من التهميش والانزواء في الأركان والزوايا فظهور الثقافة الأصيلة التي تحمل المنهج الرباني الواضح تجعل بضاعتهم من سقط المتاع لا تتبعه همة الجهلة وأراذل الناس فضلاً عن أوساطهم وعليتهم وهذا الصراع الأيديولوجي الفكري هو أعنف الصراعات على الإطلاق وميدانه ميدان الغلاة أصحاب التنظير والتقعيد وهؤلاء الغلاة يسعون بالأمة إلى حقل مليء بالأنعام وقد أوتوا فكراً وجلداً وهم أكثر الأصناف تمسكاً بأفكارهم وأيديولوجياتهم لسبب واحد في نظري وهو أنهم دعاة محترفون وليسوا نعاقاً مقلدين حيث أشربت قلوبهم حب هذه الأفكار على عوجها وظلها وقبحها فكانوا متبنين لها عن وعي وإدراك:

عشقتها شمطاء شاب وليدها

                        وللناس فيما يعشقون مذاهب

وهناك الصراع من أجل السلطة على الوسائل الإعلامية والمنابر الثقافية التي تملك القدرة على التوجيه والتأثير والتي من خلالها تقدم الشخصيات وتلمع الرموز وتظهر الألوان المعقدة الصاخبة بيضاء ناصعة تسر الناظرين.

وهناك الصراع من أجل الإقصاء للطرف الأخر وهذا النوع من الصراع نتيجة تشبع الفكر الحداثي بالأنا المتضخمة بسبب الرؤية الأحادية الضيقة التي تنظر إلى الذات بعين المجهر وتعمي عن غير ذلك وهناك الصراع من أجل الأضواء والشهرة التي تشكل مادة النمو والحركة لدى كثير من أدعياء التطور والتحرر وهؤلاء الذين يبرزون من خلال الأضواء سرعان ما يغرقون في ظلمات التيه عندما تحجب عنهم الأضواء ويصبحون كمن بدأ السلم من أعلاه لن يكون أمامه إلا النزول.

وهناك الصراع من أجل الصراع وهو العبث بعينه عندما يعلنون الفوضى على كل الوجود بدءاًَ بذواتهم ومروراً بكل شيء ، والعالم لا يخلوا من عدد من العبثيين الذين تؤذيهم سيادة الحق وانتشار الفضيلة ويقلقهم الهدوء والسكينة فيعمدون إلى العبث من أجل العبث لتغييب الفضائل وإماتة القيم السامية وتهميش القضايا الجادة.

وأخيراً هناك الصراع من أجل الحياة حيث هي هدف لمن لا هدف له وغاية لمن جهل الغاية من وجوده يصارع من أجل أن يعيش ليقتات بفكره وقلمه وربما يقتات ليعيش وهذا الصراع بشتى صوره وأشكاله ليس صراعاً سريعاً وخاطفاً بل هو صراع طويل الأمد بعيد النفس ضارب بجذوره في أعماق التاريخ مادام أنه يوجد من يغذيه ويعمل على إذكاء ناره وتأجيج أواره بفكره ودعمه وهذا الهدوء الذي تشهده بعض الساحات الأدبية ما هو إلا هدوء العاصفة الذي يسبقها .

وربما كان نوعاً من الانكفاء إلى الذات بعد مرحلة الانفلات ! لترتيب الأوراق وإعادة صياغتها بطريقة تضمن لهم الحياة من أجل الحياة والأمر الواضح الذي لا يحتاج لمزيد إيضاح هو إفلاس النخب الثقافية المتغربة الأمر الذي أفضى بها إلى الإغراق في الطلاسم والرموز والأحاجي وذلك لتعتيم الرؤية وستر الخواء الفكري بالمراوغة الأدبية الممقوتة والاختباء وراءها لنشر الأفكار والسموم والتنصل بعد ذلك من مسؤولية الكلمة وأمانتها .

 

جريدة المدينة ملحق الأربعاء

آخر تحديث
12/2/2008 7:26:06 AM